تشهد منطقة الساحل تحولات عميقة، تكشف عن محاولات ممنهجة لتحجيم الدور الجزائري في عمقها الإفريقي، عبر تنامي التوترات مع الدول المجاورة، وتحرك أطراف إقليمية ودولية لرسم خارطة جديدة للنفوذ. إعلان كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو سحب سفرائها من الجزائر، والرد الجزائري بالمثل، بعد إسقاط طائرة استطلاع تركية الصنع داخل المجال الجوي الجزائري، ليست مؤشرات معزولة، بل تعكس سعيًا حثيثًا لعزل الجزائر استراتيجيًا عن محيطها الحيوي، وإخراجها من معادلة الساحل والصحراء.
المخزن: عدو الجغرافيا والتاريخ
وفي هذا السياق، يقدّم النظام المغربي نفسه كحليف رئيسي لسياسات إدارة ترامب الحالية في منطقتنا العربية والأفريقية ، ويضع نفسه في طليعة المشروع المعروف بـ”الشرق الأوسط الجديد”؛ وهو مشروع يهدف بالأساس إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من ارضهم وتوزيعهم عبر العالم.
كما يعتبر المغرب عرابا للمشروع الصهيونى من خلال تحييد وتشويه سمعة الدول والقوى الداعمة للمقاومة الفلسطينية، وفي مواجهة الأطراف التي تتصادم مع الأجندة الغربية في المنطقة، مثل إيران وحركات المقاومة، وهو ما يضعه في قلب ترتيبات جديدة تهدف إلى إعادة رسم موازين القوى الإقليمية وفقًا لرؤية أمريكية–إسرائيلية
كما ان استراتيجيات النظام المغربي في محاصرة الجزائر جيوسياسيًا تتعدى التآمر والتشويه الإعلامي إلى محاولات إجهاض المشاريع الاقتصادية الكبرى التي تشهدها الجزائر في عهد الرئيس عبد المجيد تبون مثل أنبوب الغاز العابر للصحراء أو من خلال الترويج لصورة الجزائر كدولة منغلقة ومعزولة في الساحة الدولية. في هذا السياق، يهدف المغرب، بدعم إماراتي، إلى إضعاف الجزائر وإبعادها عن محيطها الحيوي، بينما يستفيد من تحالفاته لتحقيق مصالحه في إطار المشروع الإقليمي الجديد الذي يتماهى مع مصالح الغرب في المنطقة.
في المقابل، تبدو علاقات الجزائر مع الجوار الشرقي غير مستقرة، خاصة في ظل التباعد مع الجنرال خليفة حفتر، الحاكم الفعلي في شرق ليبيا، والذي يتعامل بحذر مع أي انفتاح جزائري قد يُنظر إليه كتهديد مباشر لنفوذه. وفي الجنوب، تتقاطع أجندات فاغنر الروسية، مع تحركات تركية وإماراتية متسارعة. ورغم عمق العلاقات الجزائرية-الروسية، إلا أن نشاط فاغنر في مالي والنيجر وبوركينا فاسو لا يخدم بالضرورة الرؤية الجزائرية، بل يعزز منطق الوجود العسكري الموازي الذي يتجاوز حسابات الدولة الجزائرية ويُضعف من قدرتها على رسم ملامح التوازن الإقليمي.
وإذا كانت الجزائر قد فتحت باب الشراكة الاقتصادية مع تركيا على مصراعيه، إلا أن الدور التركي العسكري في دول الساحل يفرض وقفة تأمل. إسقاط طائرة بيرقدار المالية هو رسالة جزائرية واضحة بأن الحدود خط أحمر، لكن لا يمكن تجاهل التناقض بين ما يجري في الأجواء، وما يجري على الأرض من استثمارات ضخمة تركية في مشاريع البناء والطاقة بالجزائر. هذا التباين في المصالح والمواقف يتطلب إعادة صياغة شاملة للعلاقات مع أنقرة، بحيث تكون قائمة على مبدأ التوازن وليس الاستغلال.
لم تعد الإمارات اليوم تُصنَّف كـدولة شقيقة او حتى كشريك اقتصادي محايد، بل تحوّلت إلى لاعب سياسي وأمني فعّال في المنطقة، تنخرط في تمويل مشاريع مضادة لأي توجه وطني مستقل، وتدعم أطرافًا تعمل على إضعاف دول المغرب العربي، مستغلة أدوات المال والتسليح والتحالف مع القوى الغربية.
وفي ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى موقف جزائري حازم وفعّال، يجعل من الجزائر رأس حربة لتكتل أمني إقليمي قادر على مواجهة هذا الاختراق المنهجي، وحماية السيادة الوطنية في المنطقة من محاولات الهيمنة الناعمة والخشنة على حد سواء
ولعل ما يُضعف من فعالية الحراك الدبلوماسي الجزائري هو تشتته في معارك جانبية، مثل صراع التصريحات مع إسبانيا وفرنسا و الذي لم يسفر عن نتائج عملية. في هذا السياق، لا ينبغي أن يُنظر إلى فرنسا فقط كعدو تاريخي، بل يمكن، إذا ما أُحسن تدبير العلاقة معها، أن تتحول إلى قوة موازنة تُستثمر في مصلحة الجزائر، خصوصًا في ضوء تراجع الدور الفرنسي في الساحل وبحث باريس عن بدائل تحفظ لها الحد الأدنى من النفوذ. فإعادة تفعيل العلاقة مع باريس لا تعني التبعية، بل استخدام ثقلها السياسي لتفكيك بعض التحالفات المضادة، أو على الأقل تحييدها في معاركنا الكبرى.
كل ما سبق يضعنا أمام خلاصة مهمة وهي انه آن الأوان لمغادرة مربع الخطابات الرمزية والثورية في السياسة الخارجية، والتأسيس لدبلوماسية واقعية، صلبة، تؤمن بأن العالم لا يحترم إلا لغة المصالح. لقد أهدرت الجزائر في السابق الكثير من الجهد في مواقف أخلاقية نبيلة لكنها غير مدروسة، مثل مسح ديون مستحقة على دول أفريقية عديدة بمافيها مالي والنيجر وبوركينافاسو .
وهنا لا بد من التفرقة بين ما ينبغي فعله خارجيًا، وبين ما يجب فعله داخليًا. ففي الخارج، لا مكان للشعارات الثورية، ولا مجال للمواقف الأخلاقية المجانية. أما داخليًا، فإن إعادة إحياء الخطاب الوطني الثوري، واستثمار التهديدات الخارجية لبناء لحمة وطنية متينة، يعد خيارًا ذكيًا وضروريًا في هذا السياق. فالعقلية الجزائرية، كما نعرفها، لا تتحرك إلا عندما تشعر بوجود خطر يهدد سيادة وأمن الوطن. ومن هنا، يمكن للسلطة أن تستثمر في الوضع الإقليمي المضطرب لإعادة تعبئة الجبهة الداخلية، وطرح مشروع وطني جامع، يُعيد للشعب ثقته في امكانياته، ويقوي الصف الداخلي ضد أي اختراق محتمل. إنها لحظة مزدوجة: تعيد فيها الجزائر إنتاج علاقاتها الدولية على قاعدة المصالح، وتعيد إنتاج خطابها الوطني على قاعدة الجزائر مستهدفة ولابد من التعبئة الشعبية.
غير أن كل الطموحات السياسية والأمنية لن تُترجم إلى واقع ملموس ما لم تُدعَّم برؤية اقتصادية طموحة تُشكّل رافعة حقيقية للتنمية. فالاعتماد المستمر على اقتصاد الريع لم يعد قادرًا على تمويل التحديات المتصاعدة، سواء على المستوى الأمني أو الديبلوماسي. الجيش الوطني الشعبي، الذي يُعَوَّل عليه في حماية السيادة وتأمين الاستقرار، يحتاج إلى ميزانيات ضخمة لمواكبة التطورات التكنولوجية والعسكرية، بينما لم تعد مداخيل الطاقة كافية، ولا يمكن التعويل عليها في ظل التذبذب المستمر في الأسواق العالمية.
من هنا، تبرز الحاجة إلى تفكير اقتصادي جريء يتجاوز الحلول التقليدية، ويراهن على تنويع مصادر الدخل الوطني عبر الاستثمار في القطاعات المستقبلية. ويشكّل الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة أحد المفاتيح الأساسية لهذا الإقلاع، لا سيما في مجالات واعدة مثل الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والرقمنة الشاملة. فهذه القطاعات لا تُعد فقط أدوات لتحديث البنية الاقتصادية، بل تمثل مصادر متقدمة لخلق الثروة، وتعزيز مداخيل الدولة، وتقليص التبعية للموارد التقليدية.
إن تبنّي سياسات استراتيجية تُمكّن من إدماج هذه المجالات في النسيج الاقتصادي الوطني، من شأنه أن يرفع من تنافسية الجزائر على الساحة الدولية، ويمنحها موقعًا رياديًا في عالم تُعيد التكنولوجيا رسم ملامحه السياسية والاقتصادية. كما أن الانفتاح على شراكات متوازنة مع قوى اقتصادية كبرى، مثل الصين أو الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يشكّل فرصة حقيقية لتسريع التحول الاقتصادي وبناء نموذج تنموي مستدام يرتكز على المعرفة والابتكار.
الصادق_أمين
#الجزائر_الجديدة