تطل الفنانة التشكيلية نادية يحياوي على جمهورها ومحبيها، من بوابة رواق مصطفى كاتب وسط العاصمة التابع لمؤسسة فنون وثقافة، في معرض جديد اتخذت له عنوانا “تحدي الناسجات” يضم واحدا وثلاثين لوحة كلها تشع أوانا وتتدفق تعابير رائقة وتحمل رموزا وإشارات مستغرقة في التراث ومستلهمة منه.
خليل عدة
فرصة للعين لكي تتأمل عن كثب ما جادت به قريحة هذه الفنانة التي لا تمل ولا تكل وتسير بخطى متسارعة نحو الأجمل والأرقى وفيها من التحدي قدر ما يحمله عنوان معرضها. تجد الزائرين للمعرض فور وصولهم صالون المعرض يستخرجون هواتفهم لتسجيل اللحظة واستعمال “السالفي” دون الاستغراق في قراءة اللوحة التي يغلب عليها التجريد، فتكفي الألوان تنوعها وحرارتها بل دفئها وجمالها ليبعث فيهم حب تخليد اللحظة خوفا من الإفلات والانفلات، هذا شأن عامة من يزور المعرض قبل الخوض في التفاصيل والحديث مع الفنانة وهذا ما لاحظناه ونحن نتجول في فضاءات المعرض.
تقول نادية يحياوي أن التحدي المشار إليه وإن كان متعلقا بناسجات زمان، إلا أنه في الحقيقة تحد لنفسها فعملها فيه ألوان وعمق وأشكال ورسومات إشارات ورموز بالإضافة إلى الرسالة، وهو الأمر الذي كانت تقوم به الناسجات في عملهن، وقد وضعت نفسها وعقلها في تفكير هذه الناسجات لتعبر عن هذه الرغبة في التعبير والعمل الفني، فكانت التيمات وكانت الألوان وواسطتها خيط النسيج.
كبرت نادية في وسط يحتفي بالحرف التقليدية والفخار، وعاشت طفولتها وهي ترى حركة الألوان والخيوط الناسجة، الصوف وعبير وروائح المواد المستعملة والفضاء في هذه الأوساط الحرفية.
تبدأ اللوحات الإحدى والثلاثين بثلاث لوحات يبرزن ناسجات وهن مستغرقات في عملهن الإبداعي أمام الخيوط والمنسج، لتستمر حركة الخيط ويتواصل سيره عبر اللوحات الثلاثين المتبقية عبر مسار تجريدي مما سيعطي جدارية كبيرة تتحدث بإسهاب عن حرفة النسيج، والفنانة هي مدفوعة بالإلهام والحافز الباطني وحب العمل، مما يجعلها في كثير من الأحيان مستغرقة مفصولة عن الواقع حد الهذيان والشرود الذوقي الفني. كل اللوحات أنجزتها نادية بتقنية الزيت على القماش، واللوحة عندها لا تنتهي، إذا لم يتوقف الفنان عن الرسم فهي دائما تطلب المزيد، والمعرض هو مهدى لجمهورها في هذا الرواق الذي يستقطب زوارا من أفاق متعددة وهي تمكن لهم وتعطيهم فرصة للفرار من روتين الحياة ورتابتها إلى جمال اللحظات التي تنغمس في الألوان والأشكال، وفيها ما هو علاج للنفوس.
تكرم نادية بعملها هذا، فئة الناسجات اللواتي كن فنانات دون أن يلجن عتبات المدارس أو المعاهد الفنية، وهي تكرمهن بألوان لوحاتها المتلألئة الدافئة الدافقة بالحركة والحياة، ومن ورائها إشارات ورموزا شاوية أمازيغية. يوجد في المعرض بالإضافة إلى لوحات الناسجات ضمن المجموعات السابقة، ثلاث لوحات “الحايك”، “التأمل”و”العازفة”. تفكر نادية قبل الانتهاء من معرضها هذا في معرض أخر يتناول الطاقات المتجددة والتحلل البيولوجي.
للتذكير نادية خليفي هي فنانة جمعت باقتدار بين العلم والفن، تنحدر من الشرق الجزائري ومن مدينة برج بوعريريج مدينة الفنانة الراحلة عائشة حداد، ترعرعت وكبرت في محيط أسري يعيش الفن ويحتفي بالإبداع، الأم محافظة نقلت لها حب التقاليد والعادات والأب متفتح على الرؤى والثقافات والمهارات والحضارة الغربية، وتعود قصتها مع حب الرسم والألوان إلى المرحلة الدراسية المتقدمة منذ نعومة أظافرها، حيث كانت دائمة العشق للرسم والألوان لتدخله بعد فترة من الباب الواسع، بعد نجاحها في الدراسة والتخرج متحصلة على شهادة عليا في البيولوجيا، تخصص ميكروبيولوجيا تلتحق بعالم الشغل في معهد باستور، وهذا لم يشغلها عن التفرغ للفن ودراسة والتعمق في أعمال موني، رونوار، ديقاس، ماني، أمحمد اسياخم ومحمد راسم، عائشة حداد وصمصوم. رحلت نادية إلى أوروبا لزيارة المعارض والمتاحف وزارت النمسا وأعجبت بتشكيلات الفنان “غوستاف كليمت” الذي جمع بين الفن وتشكيل الأقمشة، سافرت بعدها في 1999 إلى كندا رفقة عائلتها الصغيرة لتعمل في مجال الطب المخبري وتحصلت على ترقية هناك ومنصب مديرة مخبر بيولوجي لعدة سنوات، احتكت خلالها بعدة فنانين وتابعت بعض الورشات هناك لتعود في 2005 إلى بلدها لتكرس وقتها في مشروع فني في تصميم المجوهرات والماس بتقنيات حديثة، ومع ذلك ظلت دائمة الصلة وبقيت فرشاتها تداعب بياض اللوحات بألوانها السحرية لتقاسم محبي فنها بأعمال فنية رائعة تجمع في توليفة وهرمونيا بين الثقافة والتقاليد والتاريخ. قامت نادية بمعارض داخل وخارج الوطن، إسبانيا، كندا والجزائر بلدها الذي لا تبغي عنه بديلا حيث فجرت طاقاتها في معارض فردية وجماعية احتضنها فندق الأوراسي وفندق الجزائر.
تؤمن نادية برسالة الفن وبقدرته على التقريب بين الشعوب وهو جزء من ذاكرتها وبرسالة الفنان الذي يعكس الوجود بكل تجلياته.
خليل عدة