نزلت الدكتورة نعيمة حاج عبد الرحمان أستاذة الفلسفة بجامعة الجزائر 2، يوم السبت 18 ماي 2024، ضيفا على المكتبة الوطنية الجزائرية، ضمن منتدى الكتاب، الموعد الذي دأبت المكتبة على تنظيمه أسبوعيا، نشطت خلاله بقاعة محمد الأخضر السائحي، ندوة فكرية تحت مسمى” قراءات مخطوط في العقل” يعزى لفيلسوف العرب الأول الكندي.
جرى اللقاء وسط حضور نوعي، فإلى جانب منير بهادي مدير المكتبة الوطنية الجزائرية بالحامة، حضر عمر بوساحة رئيس الجمعية الجزائرية للدرسات الفلسفية البيانات الشخصية و خديجة زتيلي أستاذة الفلسفة بجامعة بوزريعة و الأمينة العامة للجمعية الفلسفية المذكورة، و نائبة المجلس العلمي لقسم الفلسفة جهيدة، وكوكبة من محبي الفكر والعقل والثقافة.
قدمت في البدء المحاضر نبذة عن الكندي، و قامت بعد ذلك بالحديث عن الوثيقة الأساسية لهذه المداخلة والتي هي “رسالة في العقل للكندي”، حيث ذكرت أن المقاربة المتبعة كانت حول ماهية العقل وما هو عدد العقول وما يميز العقل عن الحس عند الفلاسفة القدماء وعلى وجه الخصوص لدى أرسطو، حيث سيتبع الكندي الخطوات الآتية في الخطوة الأولى، يحدد الكندي موضوع الرسالة والمتمثل في العقل والسبيل الذي سيتبعه لمعالجته والمتمثل في السبيل الخبري” في الخطوة الثانية، يعرض الكندي العقول عند أرسطو، و في الخطوة الثالثة، يعرض المقارنة الأرسطية بين العقل والحس. وفي الخطوة الرابعة، يعيد مرة ثانية إحصاء عدد العقول.
وقالت بأن الخطوة الثانية كانت تعترضها صعوبة متعلقة بالمخطوط نفسه والمتمثلة في عدم إمكانية قراءة كلمة غير منقوطة فيه، وهي كلمة سببت وما زالت تسبب مشاكل في قراءة الرسالة وفهم معناها وبالتالي فهم كل فكر الكندي. فهي تجيز على الأقل قراءتين، ففي الجملة التي يقول فيها الكندي وهو يتحدث عن العقل الرابع، والرابع العقل الذي نسميه الثاني”، هل يريد الكندي قول عقل “ثاني” أو عقل “بائن” ؟ لأن المعنى يختلف تماما لو استبدلنا كلمة بأخرى والتعرف على الخط الفكري للكندي يبغى غامضا.
وخلال مقاربتها هذا السؤال لمعرفة أي اللفظتين أصح، قامت نعيمة بذكر قراءة كل من محمد عبد الهادي أبو ريدة (1909- 1991)، ثم جان جوليفي (1925- 2018)، و قراءة عبد الرحمن بدوي (1917- 2002) دون أن تنسى قراءة مترجمي القرون الوسطى لهذه الرسالة 2
بعدها قدمت قراءتها مستندة في ذلك إلى نصين إثنين، هما، لسان العرب لابن منظور والبيان والتبيين للجاحظ إضافة إلى نص الكندي ذاته من كتابه العمدة في الفلسفة الأولى ولتحقيق ذلك، اعتمدت المحاضرة على المنهج الفينومينولوجي فذهبت إلى الأشياء ذاتها، إلى غاية البيئة العربية فاستنطقت الجذر بين في أصله ومنبعه الأول وتوصلت إلى نتائج أصيلة غيرت كلية رؤية الجمهور للكندي مقدمة إياه كممثل للعقلانية.
أردت من خلال هذه القراءة -تؤكد نعيمة- أن أبين أن الكندي الفيلسوف الذي أهملناه هو فيلسوف عميق جدا، وعلينا أن نعيد النظر في كتاباته و أن نهتم أكثر فاكثر بالنص التراثي. وتطرقت في معرض حديثي عن العقول الأربعة -التي كانت متداولة عند اليونان- وفق بداية الرسالة حيث كتب الكندي “سأذكر لكم و أتحدث عن موضوع العقل من خلال السبيل الخبري، عن معنى العقل عند الفلاسفة اليونان القدماء وعند أحمد هم أي “أفضلهم” الذي هو أرسطو طاليس”.
وتبنيت قراءة “بائن” والتي هي في الأصل اعتمدها المترجمين اللاتنيين، الذين اعطوا لها معنى منطقي بحت و صرف، بينما العقل البشرى – تؤكد نعيمه – هو عقل دلالي، والذي ينقسم بدوره إلى قسمين ويهتم بالمركب وبالبسيط. وعندما يتعلق الأمر بالمركب هنا عن” Demostrativum” اللاتين، ولكن عندما يهتم العقل الإنساني بالبسيط هنا أمر أخر، هنا ميدان غير المنطق، نحن في ميدان الأنتولوجيا و علم الكينونة والوجود . وأضافت لقد تينيت كلمة ” بائن ” لكن أعطيت لها معنى أكثر وأعمق من المعنى المنطقي البحت، و قدمت معنى يجمع بين الأشياء والكلمات بين الأنتولوجيا والمنطق.
أثار اللقاء أسئلة من بينها، ضرورة إعادة النظر في المستشرقين، فهناك مستشرقين منصفون ساعدوا في اكتشاف في التراث، فأعمال الكندي كانت ضائعة، ولم تكتشف – حسبها – إلا فى 1932 من طرف مستشرقين ألمان هما ” ريتار ” و ” بليسنار ” و من بعد في 1950، أبو ريده حققها. وهناك مستشرقين، وجب أن نقرأهم و نفهمهم ونتجاوزهم.
وفي الأخير، أكدت المحاضرة أن قراءتها هذه لـ رسالة في العقل تبرز أمرين أساسيين،هما، مدى عمق فكر الكندي والذي يمثل لحظة حاسمة في تاريخ الفلسفة و مدى ضرورة نشر ثقافة العناية بالنص التراثي لأن فهم الحاضر مرتبط بالوعي بالماضي
وبالمستقبل.

خليل عدة