الجزائر وما ادراك ما الجزائر، بلد عريق بتاريخ مجيد وثروات طبيعية وبشرية هائلة، يعاني اليوم من حالة من الركود والتردد والتسَّيُب. في كل مرة نتساءل: لماذا لا نتقدم مثل بعض الدول الناشئة؟ لماذا يظل مسارنا التنموي معطلًا؟ الإجابة تتجاوز الظروف الاقتصادية و السياسية لتمتد إلى دور بعض النخب الجزائرية، التي يُفترض أن تكون في طليعة من يقود البلاد نحو النهضة، لكن في بعض الأحيان تتحول إلى مشكلة في حد ذاتها.
النخبة الجزائرية ليست كيانًا موحدًا؛ بل تختلف بين من يعمل بإخلاص وتفانٍ من أجل الوطن، وبين من اختار الإنسلاخ عن هويته واعتناق فكر غريب والاصطفاف ضد أمته و يرى في كل ما هو جزائري مصدرًا للتخلف، وفي كل ما هو فرنسي نموذجًا لا جدال فيه للتقدم. هذا الصنف من الناس لا يكتفي بالنقد، بل وصل بهم الحال إلى الطعن في التاريخ، والهوية، وحدود الوطن، متناسين أن دور النخبة المفترض هو البناء لا الهدم.
لا يمكن فصل هذا الواقع عن إرث الاستعمار الفرنسي، الذي لم يكتفِ باحتلال الأرض، بل ترك بصمة عميقة على النفوس والعقول.
لعل الكاتب الجزائري رشيد بوجدرة كان أول من دق ناقوس الخطر حول “النخبة” المتغربة في كتابه [زناة التاريخ]. لم يكتفِ بوجدرة بالنقد، بل فتح النار مباشرة على مثقفين مثل بوعلام صنصال، وكمال داود، وياسمينة خضرة، وعلي بومهدي، وسليم باشي، مسميًا إياهم بـ”الطائفة الملعونة”. اتهمهم بتزوير التاريخ وخيانة المبادئ الوطنية، مشيرًا إلى أنهم ينفذون أجندات فكرية غربية تستهدف تشويه صورة الجزائر وتاريخها.
يقول بوجدرة في كتابه: “إنهم ليسوا سوى زناة للتاريخ، يبيعون أنفسهم في سوق الفكر المغترب، ويعيدون إنتاج الخطاب الاستعماري بصياغة جديدة”. فهذه الكلمات لها دلالات قوية بل وصف دقيق لظاهرة نخبوية تتنكر لتاريخ الجزائر العظيم، وتحاول تقديم صورة مشوهة هزيلة لوطنها.
الشعب الجزائري الذي ضحى بمليون ونصف مليون شهيد من أجل استرجاع سيادته و حريته يستحق نخبة تحترم تاريخه وتساهم في بناء مستقبله، لا نخبة تتنكر لهويته وتطعن في إرثه.
في المقابل، الجزائر لم تخلُ من نخبة وطنية واعية حافظت على شرف الكلمة ومسؤولية الفكر، مثل مالك بن نبي، أحد أبرز المفكرين الجزائريين الذي تحدث عن شروط النهضة وأهمية تحرير العقول من الاستعمار الثقافي ، و الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي قاد ثورة فكرية لحماية الهوية الوطنية من محاولات الطمس، و مفدي زكريا الذي ألّف قصائد خالدة جعلت الثورة شعلة لا تنطفئ، و محمد ديب ومولود فرعون اللذان قدّما أعمالًا أدبية صوّرت الجزائر بعمقها الحقيقي، بعيدًا عن الزيف والتحريف.
وفي هذا السياق، لا يمكن أن نغفل الطاهر وطار، الكاتب الذي دافع عن الهوية الجزائرية بلغة عربية راقية، وواسيني الأعرج الذي رغم كتاباته بالفرنسية، إلا أنه ظل يحمل الهم الجزائري. هؤلاء قدموا نموذجًا للنخبة التي تجمع بين الأصالة والحداثة، بين النقد البناء والولاء للوطن.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تمكن شخص مثل بوعلام صنصال، الذي طعن في كل ما هو جزائري، من شغل منصب سامٍ في الدولة لعقود رغم غياباته المتكررة وإهماله لواجباته المهنية، حسب ما صرح به الوزير السابق الهاشمي جعبوب؟ و ربما لا يزال يتمتع الآن بامتيازات التقاعد المريح من صندوق معاشات الإطارات العليا للدولة.
هذا يفتح باب التساؤل حول المعايير والطريقة التي تُعين بها الإطارات السامية في الجزائر، ومدى ارتباط هذه المناصب بالكفاءة والالتزام الحقيقي بخدمة الوطن والولاء له.
الجزائر بحاجة إلى نخبة تبني جسورًا بين الماضي والحاضر، نخبة لا ترى في الهوية الوطنية عائقًا، بل أساسًا للنهضة ونبراسا يرشد الأمة إلى بر الآمان. ما نحتاجه هو نخبة مفكرون وعقلانون يجمعون بين الكفاءة والولاء للوطن، يدركون أن التغيير لا يأتي من الخارج، بل من الداخل.
وكما قال الكاتب بوجدرة : “التاريخ لن يرحم أولئك الذين باعوا أنفسهم، لكنه سيُخلّد أولئك الذين آمنوا ببلدهم، وعملوا لأجله، ولو بأبسط الأدوات”. التغيير يبدأ عندما ندرك أن الجزائر تستحق نخبة أفضل، نخبة تُعيد للوطن كرامته وللتاريخ نزاهتيه.
الصادق_أمين
محلل و ناشط سياسي جزائري مقيم بلندن